التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لماذا يتجه القراء القلقون إلى قراءة "السيدة دالاواي" في الحجر الصحي؟




كتابة: إيفان كيندلي

ترجمة: آية طنطاوي
موقع Newyorker


في الأيام الأولى من قرار المكوث في المنزل الذي أضحى ضروري بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد، تفشت تغريدات على موقع تويتر تحمل تغييرات مقلقة جرت على واحدة من أشهر الاستهلالات في الأدب الإنجليزي.
يوم 16 مارس "قالت السيدة دالاواي أنها ستعقم مقابض الأبواب بنفسها"
يوم 19 مارس: " قالت السيدة دالاواي أنها ستبتاع المطهر بنفسها"
يوم 23 مارس: " قالت السيدة دالاواي أنها ستمسك الفيروس بنفسها" (صاحبت تلك التغريدة صورة لمحل زهور مزدحم في شرق لندن)
يوم 24 مارس: " قالت السيدة دالاواي أنها ستتصفح صور الزهور  بنفسها"
يوم 13 مارس: " قالت السيدة دالاواي أنها ستطلب توصيل الزهور لها لأنها ليست بحاجة ضرورية لها، لكنها ستحرص على أن تعطي فتى التوصيل على الأقل 30% بقشيش  بنفسها"
يوم 3 ابريل: " قالت السيدة دالاواي أنها ستطلب أونلاين من Instacart  بنفسها"*
يوم 5 ابريل: " قالت السيدة دالاواي أنها ستصنع القناع الطبي  بنفسها"

من الملائم بشكل يدعو للغرابة أن يصل العديد من الناس لرواية "السيدة دالااواي" لفيرجينيا وولف في خضم تلك الأزمة على وجه التحديد، وعلى الأقل ليس السبب أن الصفحات الاستهلالية للرواية تعد أكثر تمثيل منتشي للقيام بإدارة المهمات في مدرسة المرجعية الأدبية الغربية**. "يالها من مزحة! يا له من إنغمار!" تفكر كلاريسا دالاواي وهي تباشر عملها الصباحي بحثًا عن زينة للحفلة التي ستقيمها في المساء. في الوقت الذي أصبحت فيه أعمالنا المعتادة – كالتسوق، أو التمشية- خطيرة للغاية، مسألة حياة أو موت، فإن نظرة كلاريسا للتسوق اليومي كمغامرة ذات خطورة عالية يتردد صداها بطريقة غريبة، أصبحنا جميعًا الآن السيدة دالاواي.
كانت رواية "السيدة دالاواي" جاهزة عام 1923، أي بعد خمسة سنوات من تفشي جائحة الإنفلونزا الإسبانية العالمية التي أودت بحياة ما يتراوح بين خمسين ومائة مليون شخص. كانت كلاريسا دالاواي واحدة من الناجين من الجائحة.

في الصفحة الثانية من الرواية، عند التحول الأول لتغير منظور السرد، وقفت جارة كلاريسا تراقبها ولاحظت أنها "أصبحت شاحبة جدًا منذ مرضها" ثم نعرف في الفقرة التالية أن قلبها قد "تأثر" بالإنفلونزا. على الرغم من أن إنفلونزا 1918 لم تذكر بشكل مباشر، إلا أن أستاذة الأدب إليزابيث أوتكا في كتابها الأخير "الحداثة الفيروسية: جائحة الإنفلونزا وأدب ما بين الحربين العالميتين" تعتقد أن "أي إشارة إلى الإنفلونزا في عام 1925 –خاصة الإشارة إلى الأعراض الجانبية الخطيرة المستمرة- ستكون إثارة للجائحة". إن  الدلالات المفتاحية في الرواية مثل الرنين المتكرر للأجراس (التي تشبه وصف "الدوائر البطيئة المثقلة ذابت في الهواء") هي استحضار للجائحة بأكثر الطرق دهاءً. كتبت أوتكا أن واحد من أكثر الظواهر ارتباطًا بجائحة الإنفلونزا من قبل الناجين منها هو"صوت القرع المتواصل للأجراس من أجل الضحايا".

كان لدى فيرجينيا وولف خبرات شخصية غزيرة مع الإنفلونزا، فقد توفيت والدتها عام 1895 إثر قصور في القلب ناتج عن الإنفلونزا، مأساة تسببت في الإنهيار العصبي الأول لفيرجينيا وولف، وسقطت مئات المرات في نوبات خطيرة للإنهيار بين عامي 1916 و 1925 تطلبت منها أن تبقى حبيسة في الفراش لمدد طويلة. أثرت الإنفلونزا على قلبها، تمامًا كما أثرت على كلاريسا، كما لعبت دورًا في تدهور حالة صحتها العقلية أثناء تلك المرحلة. في عام 1922، خلعت ثلاثة من ضروسها منعًا لإنتشار العدوى مستقبلاً بناءً على نصيحة طبيبها السيد جورج سفايج (الذي بنيت عليه شخصية السيد "ويليام برادشو" البغيض في رواية السيدة دالاواي).

فهمت فيرجينيا وولف مثل أي شخص آخر الآثار طويلة الأجل التي قد يتركها الفيروس لتعيث في الأجساد، وفي المجتمعات، لكنها أدركت أيضًا ان ليس كل الناس قادرون على التحدث عنها، أو حتى يريدوا الإستماع إليها. كتبت فيرجينيا في مقال لها عام 1926 بعنوان "أن تكون مريضًا": "كان يعتقد أن الروايات ستكون مكرسة للحديث عن الإنفلونزا".

تركت جائحة 1918 في الأدب والثقافة أثرًا أقل بكثير من المتوقع لحدث كهذا، الذي ببعض الحسابات قتل أكثر من 5% من سكان العالم. ويعود هذا جزئيًا إلى أن الجائحة وقعت عام 1918 وبداية 1919 حيث كانت الحرب العالمية الأولى على وشك الإنتهاء وبناء عليه فقد غطت الحرب عليها تمامًا. كتبت أوتكا " لم ولن تحسب ملايين الوفيات الناتجة عن الإنفلونزا بنفس الطرق التي حسبت بها ضحايا الحرب". وحينها كان هناك ندرة في التغطية الإخبارية للجائحة مقارنة بتغطية الحرب، كما ان الذاكرة التاريخية ضاعفت الفجوة في استعراض الحدثين.

تقترح أوتكا أنه في حين اعتاد الناس على اعتبار وفيات الحروب على أنها تضحية وبطولية، فيمكن اعتبار الوباء "تراجع لذريعة الموت بإعتبارة تضحية ذات معنى" فـ"الموت في المعركة قد يرى على أنه شجاعة" لكن "كان هناك شيئًا مهينًا  بشأن الموت بالإنفلونزا في وقت الحرب". وبالنسبة للكُتاب أيضًا "كانت الكتابة عن الإنفلونزا تترك شعورًا بعدم الإخلاص والوطنية، مراوغة إشكالية للقصة الأكثر أهمية حينها-وهي الحرب- وبالتالي فإن تمثيلاتها غالبًا ما تكون خفية، وإنعكست بطرق ثانوية في ذلك الوقت". كما أن التمييز بين الحرب والإنفلونزا كان جنسيانيًا، كتبت أوتكا "في عام 1918 كانت النساء مثلهن مثل الرجال تحت وطأة خطر شديد، وكان الفضاء المنزلي مميتًا كما هو الحال في الخطوط الأمامية" واستطردت أوتكا قائلة "أصبحت القصة كلها تدور حول الحرب والموتى من الذكور، أما الجائحة بكل ضحاياها المستسلمين من الذكور والإناث أضحوا كمالة عدد".

وبخلاف الإنفلونزا، فقد تجلت الحرب العظمى في رواية السيدة دالاواي بشكل لافت في شخصية "سيبتيموس سميث"، المحارب القديم الذي يعاني من الهلاوس وينتحر في نهاية المطاف بإلقاء نفسه من النافذة. يفسر معظم النقاد شخصية "سيبتيموس سميث" بأنه نموذج لحالة اضطراب ما بعد الصدمة –والتي كانت تعرف حينها بإنها إرتجاج في المخ- وأن قصته أشبه بتعليق فيرجينيا وولف على فشل المجتمع البريطاني في معالجة رعب الحرب الذي طال أمده. لكن تجادل أوتكا بأنها إشارات  –تقصد الهذيان والهلوسات- تتطابق مع الإنفلونزا التي كانت معروفة بأنها "أدت إلى عدم استقرار عقلي قصير وطويل الأجل". ببساطة كان بإمكانه أن يعاني من كلاهما: الجنود الذين أصيبوا بمعدلات عالية أثناء جائحة عام 1918. وبعض النظر عن المسببات الأدبية، فإن الفكرة من تضحية سيبتيموس المأساوية هي انعكاس لمعاناة كلاريسا من "اللامعنى" وتساعد إلى حد ما على فهم ذورة الرواية المحيرة، حيث تتعلم كلاريسا من وفاة سيبتيموس وتفكر "كانت بطريقة ما نكبتها / عارها" نكبة الحرب وعار المرض أمران مترابطان في رواية فيرجينيا وولف.

إن قراءة رواية "السيدة دالاواي" بإعتبارها على الأقل ضمنيًا "رواية مكرسه للإنفلونزا" تضع بهجة كلاريسا في عبور المدينة بأنوار جديدة. وكذلك ستفعل قراءة الرواية في غمرة وبائنا الخاص، التي حلت بشكل مؤقت لغز المشاهد الحضرية الحافلة التي تصفها فيرجينيا وولف بمحبة طيلة الرواية. بالنسبة لكلاريسا فإن مدينة لندن تحركها "طاقة إلهية" : كثافتها وإزدحامها  -على وجه التحديد ما كان يجعلها هالكة عام 1918- ينظر لها على أنها علامات الحياة. "الحياة في عيون الناس، في التمايل، التصعلك، التخبط، في الجلبة والصخب، في العربات، والسيارات، والحافلات، والشاحنات، في بائعي الشطائر الذين يقلبوا ويتأرجحوا، عازفي الفرق النحاسية، الأرجن اليدوي، في النصر والرنين والغناء العالي لبعض الطائرات المحلقة فوق الرؤوس، هذا ما كانت تحبه؛ الحياة، لندن، هذه اللحظة من يونيه". عندما أعدت قراءة الرواية مؤخرًا، كان هذا المقطع، الذي يغمرني بالإثارة دائمًا يملك شحنة أكثر قوة. إن وصف فيرجينا وولف الحيوي لعاصمة مزدحمة الآن، في حين تتمدد شوارع مدننا في الفراغ، تبدو وكأنها رواية فانتازية. لا تزال بهجة حياة كلاريسا تمتزج برهبة خفية "كان لديها دائمًا شعورًا خطرًا للغاية بأن تعيش يومًا ما"



* Instacart   هي شركة توصيل أمريكية (المترجمة)
** المقصود بها الأعمال التي حققت مكانة كلاسيكية في الأدب والثقافة الغربية (المترجمة)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عزلة جورج ر.ر. مارتن

"أنا في أجازة مع نفسي في منطقة نائية، بحضور واحد من العاملين معي، لن أذهب إلى المدينة ولن أرى أحدًا.. والحق يقال، إنني أقضي وقتًا في ويستروس أكثر من العالم الحقيقي، وأكتب كل يوم. الأحوال كئيبة في الممالك السبع، ولكنها ليست أكثر كآبة من ما هي عليه هنا. في بعض الأيام أشاهد الأخبار، ويتملكني شعورًا بأننا نعيش الآن في رواية خيال علمي. لكنها للآسف ليست من نوع روايات الخيال العلمي التي حلمت أن أعيش فيها عندما كنت صغيرًا، تلك التي تحوي مدنًا على القمر، ومستعمرات على المريخ، وروبوتات منزلية مبرمجة، وعربات طائرة".

مارجريت آتوود: إنها أفضل الأوقات، إنها أسوأ الأوقات، حقق أقصى استفادة منها

مقال لمارجريت أتوود ترجمة: آية طنطاوي موقع التايمز هل تتذكر فيلمًا يركض فيه فارس بإتجاه القلعة بينما الجسر المتحرك يرتفع للأعلى، فيقفز حصان الفارس الأبيض فوق الخندق قفزة هوائية بارعة؟ يمكنني أن أتخيلها أيضًا، لكن عندما ذهبت للبحث عن تلك الصورة على الإنترنت، كان كل ما وجده هو سيارتان تبحران فوق صفحة النهر عبر الجسر الصاعد المتحرك، والمفتش "النمر الوردي" يتخبط في مياه عكرة، ثم اختفى. على الرغم من ذلك، فنحن ذلك السائق، يطاردنا فيروس كورونا المخيف، نحن عالقون في الهواء، على أمل أن نصل إلى الجانب الآخر، حيث تعود الحياة إلى ما نعتقد أنه الطبيعي. لذلك، ما الذي علينا فعله الآن بينما نحن عالقون هناك، بين الفينة والأخرى؟ فكر في كل الأشياء التي تأمل أن تبقى موجودة في قلعة المستقبل عندما تعبر إليها، ثم أفعل ما تستطيع فعله، الآن، لتضمن بقاء هذه الأشياء في المستقبل. ليس العاملون في مجال الرعية الصحية بالحاجة إلى القول: على الجميع أن يدعمنا، فدعونا نفترض أننا سنكون بحاجة إلى نظام رعاية صحية في قلعة المستقبل. لكن ما الذي يجعل حياتك تستحق أن تعاش عندما تكون بصحة ج